كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} راحة للأبدان بقطع الأفاعيل التي تكون حال اليقظة، وأصل السبت القطع، وقيل: يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه على ما قيل، وقيل: لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئًا، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة: مسبوت، وإلى هذا ذهب أبو مسلم.
وقال أبو حيان: السبات ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضًا فشبه النوم به، والسبت الإقامة في المكان فكان النوم سكونًا ما {وَجَعَلَ النهار نُشُورًا} أي ذا نشور ينتشر فيه الناس لطلب المعاش فهو كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشًا} [النبأ: 11] وفي جعله نفس النشور مبالغة، وقيل: نشورًا بمعنى ناشرًا على الإسناد المجازي، وجوز أن يراد بالسبات الموت لما فيه من قطع الإحساس أو الحياة، وعبر عن النوم به لما بينهما من المشابهة التامة في انقطاع أحكام الحياة، وعليه قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] وقوله سبحانه: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] وبالنشور البعث أي وجعل النهار زمان بعث من ذلك الثبات أو نفس البعث على سبيل المبالغة.
وأبى الزمخشري الراحة في تفسير السبات وقال: إنه يأباه النشور في مقابلته إباء العيوف الورد وهو مرنق، وكأن ذلك لأن النشور في القرآن لا يكاد يوجد بمعنى الانتشار والحركة لطلب المعاش، وعلل في الكشف إباء الزمخشري بذلك وبأن الآيات السابقة واللاحقة مع ما فيها من التذكير بالنعمة والقدرة أدمج فيها الدلالة على الإعادة فكذلك ينبغي أن لا يفرق بين هذه وبين أترابها.
وكأنه جعل جعل الليل لباسًا والنوم فيه سباتًا بمجموعه مقابل جعل النهار نشورًا ولهذا كرر جعل فيه لما في النشور من معنى الظهور الحركة الناصبة أو معنى الظهور والبعث ولم يسلك في آية سورة النبأ هذا المسلك لما لا يخفى.
{وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح} وقرأ ابن كثير بالتوحيد على إرادة الجنس بأل أو الاستغراق فهو في معنى الجمع موافقة لقراءة الجمهور، وقال ابن عطية: قراءة الجمع أوجه لأن الريح متى وردت في القرآن مفردة فهي للعذاب ومتى كانت للمطر والرحمة جاءت مجموعة لأن ريح المطر تتشعب وتتذأب وتتفرق وتأتي لينة من هاهنا وههنا وشيئًا إثر شيء وريح العذاب تأتي جسدًا واحدًا لا تتذأب إلا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه.
وقال الرماني: جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب.
والصبا والدبور وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور، وفي قوله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح: اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا إشارة إلى ما ذكر، وأنت تعلم أن في كلام ابن عطية غفولًا عن التأويل الذي تتوافق به القراءتان، وقد ذكر في البحر أنه لا يسوغ أن يقال في تلك القراءة أنها أوجه من القراءة الأخرى مع أن كلًا منهما متواتر، وأل في الريح للجنس فتعم، وما ذكر في التفرقة بين المفرد والمجموع أكثري أو عند عدم القرينة أو في المنكر كما جاء في الحديث، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الروم ما يتعلق بهذا المبحث.
{بَشَرًا} تخفيف بشرًا بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي أرسل الرياح مبشرات، وقرئ {نَشْرًا} بالنون والتخفيف جمع نشور كرسول ورسل، و{نَشْرًا} بضم النون والشين وهو جمع لذلك أيضًا أي أرسلها ناشرات للسحاب من النشر بمعنى البعث لأنها تجمعه كأنها تحييه لا من النشر بمعنى التفريق لأنه غير مناسب إلا أن يراد به السوق مجازًا، و{نَشْرًا} بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به مبالغة، وجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا لأرسل لأنه بمعنى نشر والكل متواتر.
وروي عن ابن السميقع أنه قرأ {بُشْرىً} بألف التأنيث {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} أي قدام المطر وقد استعيرت الرحمة له ورشحت الاستعارة أحسن ترشيح، وجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية و{بَشَرًا} من تتمة الاستعارة داخل في جملتها، والالتفات إلى نون العظمة في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء} لإبراز كمال العناية لإنزال لأنه نتيجة ما ذكر من إرسال الرياح أي أنزلناه بعظمتنا بما رتبنا من إرسال الرياح من جهة العلو التي ليست مظنة الماء أو من السحاب أو من الجرم المعلوم، وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك {مَاء} الظاهر أنه نعت الماء، وعليه قيل معناه بليغ الطهارة زائدها، ووجه في البحر المبالغة بأنها راجعة إلى الكيفية باعتبار أنه لم يشبه شيء آخر مما في مقره أو ممره أو ما يطرح فيه كمياه الأرض، وفسره ثعلب بما كان طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره.
وتعقبه الزمخشري بأنه إن كان ما قاله شرحًا لبلاغته في الطهارة كان سديدًا وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء، وقال غيره: إن أخذ التطهير فيه يأباه لزوم الطهارة والمبالغة في اللازم لا توجب التعدي.
وأجاب صاحب الكشف بأنه لما لم تكن الطهارة في نفسها قابلة للزيادة رجعت المبالغة فيها إلى انضمام معنى التطهير إليها لا أن اللازم صار متعديًا، وتعقبه المولى الدواني بأن فيه تأملًا من حيث أن انضمام معنى التطهير لما كان مستفادًا من المبالغة بمعونة عدم قبول الزيادة كانت المبالغة في الجملة سببًا للتعدي، ثم قال: ويمكن التفصي بأن المعنى اللازم باق بحاله، والمبالغة أوجبت انضمام المتعدي إليه لا تعدية ذلك اللازم وبينهما فرقان، وذكر بعض الأجلة أن إفادة المبالغة تعلق الفعل بالغير مما لا يساعده لغة ولا عرف وأين هذا التعلق في قول جرير:
إلى رجح الأكفال غيد من الظبا ** عذاب الثنايا ريقهن طهور

ومثله قوله تعالى: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] ومن هذا وأمثاله اختار بعضهم كون المبالغة راجعة إلى الكيفية على ما سمعت عن البحر، وقال بعض المحققين: إن {طَهُورًا} هنا اسم لما يتطهر به كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «التراب طهور المؤمن» وفعول كما قال الأزهري في كتاب الزاهر يكون اسم آلة لما يفعل به الشيء كغسول ووضوء وفطور وسحور إلى غير ذلك كما يكون صفة بمعنى فاعل كأكول أو مفعول كصبوب بمعنى مصبوب واسم جنس كذنوب ومصدرًا وهو نادر كقبول فيفيد التطهير للغير وضعًا، ويمكن حمل ما روي عن ثعلب على هذا، واعتبار كونه طاهرًا في نفسه لأن كونه مطهرًا للغير فرع ذلك، وجعل على هذا بدلًا من ماء أو عطف بيان له لا نعتًا فيكون التركيب نحو أرسلت إليك ماء وضوءًا.
وأنت تعلم أن المتبادر فيما نحن فيه كونه نعتًا فإن أمكن ذلك على هذا الوجه بنوع تأويل كان أبعد عن القيل والقال، وحكى سيبويه أن طهورًا جاء مصدر التطهر في قولهم: تطهرت طهورًا حسنًا، وذكر أن منه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلا بطهور» وحمل ما في الآية على ذلك مما لا ينبغي.
وأيًا ما كان ففي توصيف الماء به إعظام للمنة كما لا يخفى.
{لّنُحْيِىَ بِهِ} أي بما أنزلنا من الماء الطهور {بَلْدَةً مَّيْتًا} ليس فيها نبات وذلك بإنبات النبات به؛ والمراد بالبلدة الأرض كما في قوله:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ** قليل بها الأصوات إلا بغامها

وجوز أن يراد بها معناها المعروف وتنكيرها للتنويع، وتذكير صفتها لأنها بمعنى البلد أو لأن {مَيْتًا} من أمثلة المبالغة التي لا تشبه المضارع في الحركات والسكنات وهو يدل على الثبوت فأجري مجرى الجوامد، ولام {لّنُحْيِىَ} متعلق بأنزلنا وتعلقه بطهورًا ليس بشيء.
وقرأ عيسى وأبو جعفر {مَيْتًا} بالتشديد، قال أبو حيان: ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلًا من المصادر فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلًا من حيث قبوله للتاء إلا فيما خص المؤنث نحو طامث.
{وَنُسْقِيَهِ} أي ذلك الماء الطهور وعند جريانه في الأودية أو اجتماعه في الحياض والمناقع والآباء {مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا} أي أهل البوادي الذي يعيشون بالحياء، ولذلك نكر الأنعام والأناسي فالتنكير للتنويع.
وتخصيص هذا النوع بالذكر لأن أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمنابع فيهم وبما لهم من الأنعام غنية عن سقي السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبًا، ومساق الآيات الكريمة كا هو للدلالة على عظم القدرة كذلك هو لتعداد أنواع النعمة فالأنعام حيث كانت قنية للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها أحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها فالتقديم من قبيل تقديم الأسباب على المسببات، وجوز أن يكون تقديم ما ذكر على سقي الأناسي لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقي أرضهم ومواشيهم لم يعدموا سقياهم، وحاصله أنه من باب تقديم ما هو الأهم والأصل في باب الامتنان، وذكر سقي الأناسي على هذا إرداف وتتميم للاستيعاب، ومن تبعيضية أو بيانية و{كَثِيرًا} صفة للمتعاطفين لا على البدل.
وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما {وَنُسْقِيَهِ} بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأسقى وسقى لغتان، وقيل: أسقاه بمعنى جعل السقيا له وهيأها، و{أناسي} جمع إنسان عند سيبويه وأصله أناسين فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها.
وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أنه جمع إنسي، قال في البحر: والقياس أناسية كما قالوا في مهلبى مهالبة.
وفي الدر المصون أن فعالى إنما يكون جمعًا لما فيه ياء مشددة إذا لم يكن للنسب ككرسي وكراسي وما فيه ياء النسب يجمع على أفاعلة كأزرقي وأزارقة وكون ياء إنسي ليست للنسب بعيد فحقه أن يجمع على أناسية، وقال في التسهيل: أنه أكثري، وعليه لا يرد ما ذكر.
{وَلَقَدْ صرفناه} الضمير للماء المنزل من السماء كالضميرين السابقين، وتصريفه تحويل أحواله وأوقاته وإنزاله على أنحاء مختلفة أي وبالله تعالى لقد صرفنا المطر {بَيْنَهُمْ} أي بين الناس في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما {لّيَذْكُرُواْ} أي ليعتبروا بذلك {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} أي لم يفعل إلا كفران النعمة وإنكارها رأسًا بإضافتها لغيره عز وجل بأن يقول: مطرنا بنوء كذا معتقدًا أن النجوم فاعلة لذلك ومؤثرة بذواتها فيه، وهذا الاعتقاد والعياذ بالله تعالى كفر، وفي الكشاف وغيره أن من اعتقد أن الله عز وجل خالق الأمطار وقد نصب الأنوار دلائل وأمارات عليها وأراد بقوله مطرنا بنوء كذا مطرنا في وقت سقوط النجم الفلاني في المغرب مع الفجر لا يكفر، وظاهره أنه لا يأثم أيضًا، وقال الإمام: من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره وأما من قال: إنه سبحانه جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر.
وسيأتي إن شاء الله تعالى منا في هذه المسألة كلام أرجو من الله تعالى أن تستحسنه ذوو الأفهام ويتقوى به كلام الإمام، ورجوع ضمير {أنزلنا} [الفرقان: 48] إلى الماء المنزل مروى عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة وأخرج جماعة عن الأول وصححه الحاكم أنه قال: ما من عام بأقل مطرًا من عام ولكن الله تعالى يصرفه حيث يشاء ثم قرأ هذه الآية.
وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن الثاني مثله، ويفهم من ذلك حمل التصريف على التقسيم، وقال بعضهم: هو راجع إلى القول المفهوم من السياق وهو ما ذكر فيه إنشاء السحاب وإنزال القطر لما ذكر من الغايات الجليلة وتصريفه تكريره وذكره على وجوه ولغات مختلفة، والمعنى ولقد كررنا هذا القول وذكرناه على أنحاء مختلفة في القرآن وغيره من الكتب السماوية بين الناس من المتقدمين والمتأخرين ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته عز وجل في ذلك فأبى أكثرهم ممن سلف وخلف إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث بها أو إنكارها رأسًا بإضافتها لغيره تعالى شأنه، واختار هذا القول الزمخشري، وقال أبو السعود: هو الأظهر، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني أنه عائد على القرآن ألا ترى قوله تعالى بعد: {وجاهدهم بِهِ} [الفرقان: 52] وحكاه في البحر عن ابن عباس أيضًا والمشهور عنه ما تقدم، ولعل المراد ما ذكر فيه من الأدلة على كمال قدرته تعالى وواسع رحمته عز وجل أو نحو ذلك فتأمل، وأما ما قيل إنه عائد على الريح فليس بشيء.
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} نبيًا ينذر أهلها فتخف عليك أعباء النبوة لكن لم نشأ ذلك وقصرنا الأمر عليك إجلالًا لك وتعظيمًا.